يهتمّ قسم الدراسات الإسلاميّة بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” على امتداد هذا الموسم الأكاديمي بتحديات ورهانات المسائل التشريعيّة، مستضيفا عديد الباحثين والأكاديميين من جنسيات مختلفة لتقديم مقاربات متنوّعة حول قضايا التشريع.
وفي هذا الإطار استضاف يوم الإثنين 04 مارس 2024 الأكاديمي المغربي عزّ العرب لحكيم البناني لتقديم محاضرة بعنوان “قيم الطهارة والنجاسة ومعيار التنظيم القانوني للآداب العامة: نماذج فلسفيّة أنجلوسكسونيّة وأمثلة تطبيقيّة من المغرب. وافتتح اللقاء رئيس القسم الأستاذ احميدة النيفر، مذكّرا بطبيعة الفعل التشريعي المتحرّكة نتيجة للمؤثّرات المتعدّدة، وانطلق في هذا السياق من مستجدات العولمة التي أملت تحوّلات في المجالات التشريعيّة، كما أكّد على أنّ القسم بصدد الإعداد لورشة عمل حول تاريخيّة وأصول الفقه، سوف تنتظم في مقرّ المجمع خلال النشاط القادم.
وقدّم مسيرة المحاضر المجمعي محمد بوهلال، موضّحا تعدّد اهتمامات الباحث وترجماته لأعمال فكريّة باللغات الألمانيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، فهو أستاذ فلسفة بالجامعات المغربيّة، وصاحب مؤلّفات ومقالات منشورة في دوريات ومجلات عالميّة، ووصفه برحّالة العلم والفلسفة نظرا إلى حجم رحلاته المعرفيّة. وتناول الأكاديمي البناني في مطلع محاضرته مقاصد الآداب العامة، تلك التي ترتبط بالضغوط الاجتماعيّة وبالأنساق القيمية وبالتشريعات المتصلة بالأطر السائدة. كما أثارت فعاليات اللقاء فاعليّة الحركات الاجتماعيّة في المجال التشريعي لأنّها “تضفي الشرعيّة على السلوك الطبيعي” وفقا لعبارة الأستاذ عزّ العرب لحكيم البناني، وتقترن هذه الآداب العامّة في نظره بما هو عقلاني، وغير عقلاني في آن لأنّها مرتبطة بعالم النزوات والأهواء.
وأثارت المحاضرة سجالا حول منزلة القانون في إلزام المرء باحترام التدابير الاجتماعيّة، ممّا يفسّر الطابع الإشكالي لعلاقة تلك الضوابط والتشريعات بقضايا الحريات ومفهوم الذات المريدة. وفي هذا الصدد شدّد المحاضر على أنّ غاية القانون تتمثّل في سعي التشريع إلى “إلزام الأفراد باحترام القاعدة القانونيّة التي تحكمها الأنساق الاجتماعيّة”، منسجما في ذلك مع الفكرة الأساسيّة لفلسفات التعاقد الاجتماعي المؤكّدة على وجاهة الحريات التعاقديّة والإرادة العامّة، ويظلّ الإشكال مرتبطا ارتباطا عضويا بخصوصيّة إكراهات الحاضنة الاجتماعيّة، إن كانت فعلا تائقة إلى تعاقد اجتماعيّ يؤمن بالمواطنة، أم هي مراهنة على ترويض الذات عبر تدابير براغماتيّة.
ملخّص
كان القانون قد أحدث ثورةً داخليَّة حينما أصبح السُّلوك الطبيعيُّ الممارَسُ خارج القانون فاعلًا داخل القانون، إذ أصبح شرط وجود القانون هو ألّا يتدخّل في الأفعال النّاجمة عن الميول الطّبيعيّة للأشخاص، حتّى ولو كانت تعتبر نزوة أو سلوكًا نزقًا أو أنانيّة، وألا يعتبر عدم التقيُّد بالقانون فراغًا يجب تدارُكُهُ.
وقد اعتبر نيكلاس لوهمان في كتاب “الاحتجاج” أنَّ “الفضلَ يرجع إلى الحركات الاجتماعيّة حينما قامت بأداء وظيفةٍ لم تشغَلها مجالات أخرى وهي إضفاء الشرعية على السلوك الطبيعي بناء على الاختيارات الشخصية وهي اختيارات تقترن بسلوك غير عقلاني إلى جانب السلوك العقلاني وبالاستجابة للنزوات الفردية والأنانية.
غير أنَّ القانون قد سعى إلى إلزام الأفراد باحترام القاعدة القانونيَّة التي تحكِّمُها الأنساقُ الاجتماعيّةُ، دون أن تتمكّن من الانتباه إلى المشاكل الشخصيّة التي نشأ على هامش تلك الأنساق. فقد افتقرت ” منظومة القانون إلى الوعي بوجود المخاطر. فقد استهانت عامّةً بمشاكل العصر، كم أنَّ نصوص المُقرَّرات لم تقدّم لرجال القانون مناسبةً سانحةً للإفصاح عن الرّيبة والوعي بالمَخاطر، بينما تعَلّم رجلُ القانون فقط كيف يبتكر المعلومات التي يحتاج إليها من أجل تسويغ قراره، ذلك أنَّ المنظومة القانونيّة كانت على وعي بوجود مخاطر، دون أن تملك مناهج تقييمها ولا إجراءات سانحة لذلك. وبما أنَّ المجتمعات تسعى إلى حماية “المصالح القانونيّة” فإنّها سارعت إلى سنّ تشريعات للوقاية من المخاطر المحتملة كالأمراض، وللوقاية من النّجاسة والسُّموم والأفعال الماسّة بحرمة النّاس وشرفهم. وهكذا، تذكُرُ نوسبوم كيف أنَّ مختلف الثّقافات قد عرفت ثنائيّة الطَّهارة والنجاسة، بحيث أنَّ الناس الذين لا يغتسلون أو لا يتخلّصون من فضلاتهم، أو يُمنَعُون من ذلك يفقدون كرامتهم ويُنَزَّلون منزلة أدنى من مستوى البَشَر. “ولذلك يَسْهُلُ علينا أن نعذّبَهم أو أن نقتُلَهُم.” فالنفس تشمئزُّ من كلّ الأفعال الدنيئة التي تكاد تصيبنا بلوثتها وتذكّرنا بالخطورة على حياتنا وبجذورنا الحيوانية.
وكما أنّه يجوز معاقبة المُذنب عند ارتكاب جناية، يجب إبعاد مصادر النّجاسة، والتطهُّر منها عند لمسها. ولذلك تعني طهارة البدن عدم الاتصال بمصادر نجسة، بالقدر الذي تعني فيه براءة الذّمَّة عدم ارتكاب جناية. وكما أنَّ النجاسة التي أصابتنا تتطلب استرجاع الطهارة، ولو بصورة رمزية بواسطة الوضوء، تتطلب متابعتها جنائيا إذا ما تحولت إلى عدوان خطر على الآداب العامة.
لذلك، يجوز لنا أن نؤوّل التعاليم الأخلاقيّة الإسلاميّة على نحو يستبعد الأفعال المستهجنة التي لا تحدث ضررًا فعليّا من دائرة التَّجريم. ويمكننا أن نعتمد بدايةً حجَّة “السَّتْر” التي انتشرت بقوة في الأعراف الاجتماعيّة، وهي مستمدّةٌ من أحاديث نبويّة تغُضُّ الطرف عن أفعال جُنح الظلام التي يستهجنها الشَّرعُ وهي تتخلى عن التدخُّل في الحياة الخاصّة، وتكتفي بالتأنيب الأخلاقي عند الاقتضاء.
مثال من القانون المغربي:
نصَّت المادّة 483 من القانون الجنائي المغربي على أن “من ارتكب إخلالا علنيا بالحياء وذلك بالعري المتعمد أو بالبذاءة في الإشارات أو الأفعال يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين وبغرامة من مائة وعشرين إلى خمسمائة درهم”. وهي تتضمّن قيم الشرف، كما هي منغرسة داخل منظومة الزواج والأسرة. لذلك نواجه انتهاكَها بالاستنكار والشعور بإهانة المشاعر الدّينيّة. ولا جدال في أنَّ سائر الدّول الغربية كانت توفّر بدورها على هذه القوانين المتعلقة بالآداب العامّة. تقترن مقولة “الآداب العامّة” في الدُّول الغربيّة بالضَّغط الذي يمارسه الرأي العام. ويظلُّ “الاستنكارُ” الأخلاقي داخل المجتمع مستمرًّا حتّى في المجتمعات الإسلاميّة التي تخلت عن المنظومة الجنائيّة الإسلامية أو لا زالت تعمل بها.
المواكبة الإعلامية
Le Temps 05-03-2024