هل من معنى لمفهوم المشترك الجيني بين الشعوب المتوسّطيّة في الحقل الدلالي العلمي؟ في ظلّ أيّ سياق يستقيم مفهوم الرصيد الثقافي المشترك؟ كيف تتحقّق دربة الحوار مع الآخر؟ أيّ تأثير للحركات التجاريّة العابرة للحدود في دوّل البحر الأبيض المتوسّط؟ بماذا تتميّز السواحل المتوسّطيّة في المستوى العالمي؟ ما هي انعكاسات التحوّلات الأيكولوجيّة؟ أيّ وجاهة لمفهوم الاتحاد المتوسّطي؟ ما هي انعكاسات التغيّرات ذات الصلة بالنظم البيئيّة؟ أين تتنزّل حتمية التشريعات البيئيّة؟
اهتمّ أكاديميون وباحثون ومبدعون من تونس، ومن دوّل عربيّة وأوروبيّة مختلفة بهذه القضايا خلال ندوة دوليّة انعقدت في مقرّ المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” أيّام 10-11-12 نوفمبر، نظّمتها أكاديميّة بيت الحكمة بالشراكة مع المعهد الفرنسي بتونس IFT)) وأكاديميّات مرسيليا ونيم وفار(Var) بعنوان Méditerranée occidentale: des liens à réinventer ونسّقت فعاليّاتها رئيسة قسم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة ببيت الحكمة الأستاذة منيرة شابوتو الرمادي والأستاذة Geneviève Nihoul العضو في أكاديميّة فار.
فمن البديهي جدّا أن يتّسم كلّ نسيج اجتماعيّ بنسق من الخصوصيّات، وهذا ما يؤكّده التشريح السوسيولوجي والأنتروبولوجي وجميع الدراسات العلميّة المختصّة، لكن “نحن أسئلة مشتركة” و”تحديات مشتركة” و”واجب مشترك” كما ورد في كلمة رئيس المجمع الدكتور محمود بن رمضان، تلك التي شخّص فيها السياق العام الذي تنتظم فيه ندوة دوليّة متوسّطيّة تطرح قضايا تفترض التشريح العلمي المشترك انسجاما مع المصير المتقاطع على الرغم من إيمان بعض الأطروحات بحتميّة القطيعة، غير مكترثة بطبيعة مصير الشعوب المرتهن بالحوار المتجدّد. فجلّ القضايا متداخلة لاعتبارات أنجبتها وقائع التاريخ، ورعاها الجوار الجغرافي، بل تمليها تحديّات المستجدّات البيئيّة وأسئلة الراهن التائهة في دروب الواقع الضبابي، فلا معنى لمنطق الانغلاق الرافض للمختلف، فحتى الجيني يؤكّد حجم مواطن التداخل بين مجتمعاتنا المتوسّطيّة، لذلك انطلقت الدكتورة آمال بن عمّار قعيّد بوصفها مختصّة في علم المناعة من وقائع تجمع بين حقائق التاريخ وإثباتات العلم لتبرز التداخل الجيني بين شعوب المتوسّط، ممّا يؤكّد التركيبة الفسيفسائيّة للمتوسطيين، مقدّمة في هذا السياق عديد المعطيات والخصائص الجينيّة الداحضة للمسلّمات المضادّة لهذه المقاربة، فالهويّة الجينيّة بالنسبة إليها يختزلها التنوّع الذي أملته الحدود المفتوحة والحركات الاستيطانيّة وتعاقب الحضارات، وذكّرت في مداخلتها بالمضامين العلميّة الواردة في الكتاب الجماعي Les Tunisiens qui sont-ils ? D’OÙ Viennent-ils ? Les révélations de la génétique الذي نشره المجمع التونسي “بيت الحكمة” مؤخّرا بالشراكة مع دار سيراس للنشر بإشراف الدكتورة آمال قعيّد، إذ تؤكّد محتوياته العلميّة المتنوّعة تعدّديّة البنية الجينيّة للتونسيين نظرا إلى تأثيرات الوافدين من الضفاف الجغرافيّة الأوروبيّة والعربيّة والإفريقيّة. ومن الطبيعيّ جدّا أن تنتج الحدود المفتوحة أشكالا من القضايا المشتركة العابرة للحدود، والتي ناقشتها سلسلة من الجلسات العلميّة مهتمّة بقضايا سوسيو-اقتصاديّة وسياسات التشريع وطنيّا وإقليميّا وعالميّا إلى جانب مستجدّات النظم البيئيّة Les écosystèmes– أليست قضية القضايا اليوم مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتحوّلات الأيكولوجيّة؟
قد لا نجانب الصواب إن سلّمنا بالتلازم العضوي بين تحوّلات النظام البيئي ونسق الأزمات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي نظرا إلى حجم تأثيراتها الفوريّة والمؤجّلة في أدقّ تفاصيل النسيج الحياتي لكافّة الشعوب بما في ذلك النافذة، لندرك جدوى المداخلات والنقاشات التي ميّزت أشغال الندوة المجمعة على ضرورة التفكير المشترك في قضايا قد تبدو محليّة وخصوصيّة إلاّ أنّها مشتركة ومهدّدة للجميع. وعلى جميعنا استكناه جدوى التفاعل الجدلي بين الانا والآخر بقطع النظر عن الانتماءات، ولن يستقيم هذا التفاعل وفقا للباحثة الفرنسيّة Anne-Sophie Luiggi إلاّ عبر التنشئة التربويّة المؤمنة بقيم الغيريّة ذات الخلفيّة الفكريّة المشبعة بما هو إنساني، وبالكوني المستوعب للمغاير، انسجاما مع طبيعة الحقيقة المفتوحة على الأطروحة والأطروحة المضادة مهما كانت طبيعة النص المطروح، فالمقدّس نفسه قابل للتأويلات المترامية والديناميّة المرتبطة بديناميكا السياقات، ولكلّ تأويل مبرّراته وفي كل حقل دلالي ديني قراءة، ففي مجال الدراسات الإسلاميّة “لا وجود لإسلام واحد” بل هنالك صيغ فهم للإسلام وفقا للدكتورة سهام الدبابي الميساوي التي أشرفت على فعاليّات اليوم الثالث للندوة. وعليه تكون الدّربة على الحوار والعيش المشترك فكريّة وعلميّة وسيكولوجيّة وأكسيولوجيّة لأنّ التحديّات مستهدفة للجميع، فمن يرفض غيره يضحي عمليّا بمصالحه الاستراتيجيّة وبالرصيد الثقافي المشترك وبالرهانات السياديّة كما ورد في مداخلة الباحث والسينمائي هشام بن عمار المؤكّدة على التجانس بين الخصوصيّة والكونيّة.
وتفترض إيتيمولوجيا الرصيد الفكري المشترك والمواطنة الكونيّة ما يعبّر عنه فلسفيّا بإيتيقا Éthique– الحوار المفعمة بقيم التفاعل الحقيقي بين قطبي أيّ خطاب، بمنأى عمّا هو تسويقي ومناسباتي للاستهلاك العام، إنّه الوعي المتحرّر من نشوة موازين القوى، ومن حماسة شعارات السياسويين المتورّمة، أو المنغلقة التي غالبا ما تنهل من الإيديولوجيات الشوفينيّة المنتجة لمنطق صراع الثقافات والحضارات. فالمجتمع الدولي عموما والمتوسطي خصوصا بحاجة إلى مقاربات توحيديّة تحسن استثمار ثروات مشتركة، وذكّرت في هذا السياق عديد المداخلات بقمم 5+5 التي تعدّ لبنة من لبنات الاتحاد المتوسّطي وبعديد الأرقام التي تؤكّد حجم المكاسب المتبادلة، ألا يعبر مئات الملايين سنويّا السواحل المتوسّطيّة؟ ألا تمثّل الحركة السياحيّة المتوسّطيّة ثلث النسيج السياحي العالمي؟ ألا تتضمّن ضفاف المتوسّط في حدود 600 ميناء؟
تلك هي الوقائع الناطقة بها لغة الإحصاء، وذلك هو التشخيص الأكاديمي غير المخاتل، لكن هل يحسن صناع القرار فهم تلك اللغة واستيعاب تشريح نخب الفكر والبحث العلمي؟
المواكبة الإعلاميّة
Le Temps 17/11/2022
Le Temps: 10/11/2022