المواكبة الإعلاميّة لمنشورات المجمع
ابن خلدون وقرّاؤه
لقّبه البعض بالمؤسّس الفعلي لعلم الاجتماع، وقيل عنه يفكّر في القرن الرابع عشر بعقل أعدّ للقرن العشرين، اهتمّ في كتاباته بقوانين العمران البشري لذلك سمي مؤسّس علم العمران البشري، فكّك مفاهيم سيكولوجيا الشعوب والعصبيّة وأطوار انهيار الدولة فكان من كبار المطوّرين للفكر السياسي نظرا إلى حجم إسهاماته في فلسفة التاريخ والنظم السياسيّة. ذلك هو ابن خلدون شغل النقّاد وأزعج طمأنينة المهتمين بإشكالات العلوم الإنسانيّة عموما ممّا يفسّر حجم المؤلّفات الصادرة حوله، ومن بينها كتاب “ابن خلدون وقرّاؤه” لأحمد عبد السلام، الصادر بالفرنسيّة وعرّبه الصادق الميساوي، والذي نشره مؤخّرا المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة”.
يشير المؤلّف في التمهيد إلى أنّ الكتاب يحتوي على دروس ألقاها في “الكوليج دي فرانس” وتتنزّل في نظره ضمن تجدّد الدراسات الخلدونيّة باعتبارها إشكاليّة الطابع وشديدة التنوّع، فهي جامعة بين تعبيريّة الفلاسفة ومصطلحات السوسيولوجيا ومفردات المؤرّخين. بالمعنى الوجيز أملت أعمال ابن خلدون حسب محتويات جديد منشورات المجمع التونسي “بيت الحكمة” قراءات علميّة متعدّدة المناهج، ومقاربات إيديولوجيّة مختلفة إلى حد التناقض التام، وهوما تجسّده الدراسات الاستشراقيّة للمقدّمة، حيث تنسبها “حينا إلى علم الاجتماع وحينا آخر إلى فلسفة التاريخ” (الصفحة 39 من الكتاب)، بل أدّى الفكر الخلدوني إلى بروز مدارس مثل المدرسة الخلدونيّة في تركيا من أبرز رموزها حاجّي خليفة(1609-1657) والكاتب أوغلو. كما اهتمّت بحوث استشراقيّة أوروبيّة بالمقدّمة أساسا “فقد لاحظ المستشرقون تشابها بين ما ورد فيها وأفكار أهل عصر الأنوار من أمثال مونتسكيو” (ص42)، و تكمن في هذا المجال النزعة التقدّميّة -التحرّريّة والبعد الكوني لدى ابن خلدون، لذلك اعتبره جوزيف فون هامر برغستال Josef von Hammer Purgstall (1774-1856) مونتسكيو العرب، ويسميه آخرون مونتسكيو الشرق . كما يؤكّد صاحب “ابن خلدون وقرّاؤه” على أنّ اهتمام الاستشراق الأوروبي بابن خلدون لم يكن حكرا على بعض المؤرّخين والمهتمين بقضايا العمران البشري، بل خصّصت له مؤلّفات وحوليات وملتقيات على غرار ما نشره حوله الفيلسوف النمساوي فريديريك شولتر(1799-1829) المنبهر بعمق وعلميّة الأطروحات الخلدونيّة في المجالات السياسيّة والاجتماعيّة .
ومن حجج اعتناء الاستشراق الأوربي بابن خلدون في نظر الكاتب النقد المقارن بين صاحب المقدّمة وكبار الفلاسفة الغربيين، ففي هذا الصدد قارن المستشرق السويدي جاكوب غرابرغ دي همسو بين ابن خلدون ومكيافلي Machiavel، مؤكّدا تأثير الفكر الخلدوني في صاحب الأمير، ومن تلك البراهين كذلك ترجمة المقدّمة إلى لغات عالميّة من بينها “ترجمة كاملة إلى اللغة الفرنسيّة أعدّها دي سلان (1801-1878).
تلك هي القراءات الخلدونيّة متنوّعة بتنوّع القرّاء إيديولوجيا وإيبستيمولوجيا وسياقيا ولا يمكن لأحد دحض مشروعيّة كل قراءة بما في ذلك ابن خلدون نفسه لأن النص ملك لقارئه شريطة أن يمتلك الأدوات المعرفيّة الضروريّة، فالمقدّمة تحيل إلى تأمّلات فلسفيّة وإن نفى ذلك بعض القرّاء، وفهمه للعمران البشري ينزّله البعض ضمن المبحث السوسيولوجي لكن يستوعبه بعضهم في سياقات معرفيّة مغايرة. لنكتشف أهمية أثر “ابن خلدون وقرّاؤه” لما تضمّنه من قراءات عربيّة واستشراقيّة أوربيّة لبحوث خلدونيّة اهتمّ نظامها المعرفي بالمنطق الأرسطي وقضايا علم الكلام، وناقش فكرها السياسي نظم الحكم وأجيال الدولة، وانشغلت بشروط تقصي حقائق التاريخ، وبحثت في قوانين العمران البشري، فأسّست مدرسة تستوجب تجديد القراءات وتتالي المؤّلفات وفي هذا السياق يتنزّل كتاب ابن خلدون وقرّاؤه.
في إطار سلسة المنشورات التاريخية، نشر مؤخّرا المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” بالاشتراك مع مجلة ليدرز كتابا من تأليف الأستاذ عمار محجوب حول التاريخ القديم، ويمكن لقرّاء هذا المؤلّف الاطّلاع على تاريخ مدن وممالك وملاحم من التاريخ القديم حيث يتضمّن الأثر مجموعة مقالات حول نشأة امبراطوريات ومنارات حضارية عالمية على غرار تأسيس مدينة قرطاج وجذورها الإفريقية، ففي هذا السياق لم يكتف المؤلّف بوصف ملامح فجر القرطاجنيين، بل ركّز على البعد الكوني لدستور قرطاج الذي دفع بكبار المشرعين والفلاسفة إلى تثمين مضامينه مثل أرسطو المشيد في كتابه حول السياسة بالمضامين التحرّرية وآليات المأسسة التي دعا إليها هذا الدستور. كما يبرز الكتاب التعايش بين الثقافات والقبائل المختلفة والطقوس الدينيّة وانتشار بعض الحضارات والتحوّلات اللغوية في الشرق الأدنى، مثيرا اشكالية الغزو الروماني . بإيجاز يمثّل جديد منشورات بيت الحكمة فسحة تأملات في مفاهيم الحكمة والوثنية والتوحيد والفوارق بين أنظمة الحكم ومسارات تطوّرها عبر التاريخ على غرار التحوّلات التي شهدتها الأنظمة الديمقراطية.
يحتوي الكتاب على الخطب التي ألقاها الأعضاء الجدد من المجمعيين في جلسة ممتازة عقدها المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” يوم 28 سبتمبر2019، وقدّم خلالها كل مجمعي خطابا حول أبرز محطات مسيرته البحثية واختصاصه الأكاديمي. عموما يعدّ كل خطاب نبذة مختصرة حول اهتمامات المجمعي الفكرية والإبداعية والثقافية وإسهاماته العلمية وأعماله الأكاديمية التي مكّنته من الانضمام لبيت الحكمة.