هل تمثّلت جيّدا الثقافة العربيّة مقوّمات التحديث؟ ما هي العوائق الفعليّة المعطّلة للحداثة في المجتمعات العربيّة؟ هل هنالك ثقافة عربيّة واحدة أم نحن إزاء ثقافات متعدّدة؟ كيف يمثّل التحديث إشكاليّة متجدّدة؟
للبحث في هذه المعضلات، نظّم مؤخرا قسم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” لقاء، قدّم خلاله الباحث السوري بالجامعات الأمريكيّة الأستاذ ناصر الرباط محاضرة بعنوان “الثقافة العربيّة وعقدة الحداثة”. وتعدّ مسألة الحداثة العربيّة معضلة إشكاليّة بامتياز وفقا للأستاذ عبد المجيد الشرفي رئيس المجمع نظرا إلى طبيعة الأسئلة التي تثيرها، فهل نحن أمام ثقافة عربيّة واحدة أم ثقافات؟ وهل نمتلك إرادة تحديثيّة وسياقات تستوعب حقا المشروع التحديثي؟ لتفكيك بنية هذه الإشكالات ركّز المؤرّخ المعماري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلاميّة بالجامعات الأمريكيّة على أهم العوائق المعيقة للتحديث العربي، تلك التي تتمثّل في العقليّة القبليّة والطغيان السياسي ومنظومة القيم التقليديّة والمحافظة، إلى جانب استراتيجيات القوى الاستعماريّة ودوائر الهيمنة . لنستخلص كثافة العوامل المعطّلة لمسارات الحداثة العربيّة، فهي معرفيّة و قيميّة وسياسيّة ودينيّة . . كما أنّها داخليّة تتعلّق بسياقات فكريّة، وخارجيّة ذات علاقة بموازين قوى ومنطق ابتزازي يستثمر في تخلّف الشعوب .
ولم يكتف المحاضر بتشخيص الآليات المعطّلة للمسار التحديثي، بل قدّم مقاربة حول سبل التجاوز، من أبرزها برأيه الرهانات الفكريّة والعلميّة والإصلاحات السياسيّة، والقطع مع “منطق الهويّة”، الذي استنزف زماننا وقدراتنا، فالمطلوب “الخلق الجدلي” على غرار الحداثة الغربيّة المستفيدة من جميع الروافد الفكريّة دون عقدة هويّة . وعليه يكون التحديث العربي مشروطا بمقاربات نقديّة متحرّرة من قيود المحظور الديني والأخلاقي والسياسي . ألم تنطلق إرهاصات التحديث الديكارتي من نقد المشروع الكنائسي؟ أليست الحداثة ثورات علميّة ضد التخلّف الفكري والاستبداد السياسي؟ لذلك اتّسمت النقاشات على امتداد ساعات بسجالات عميقة حول نحن والآخر، الآخر ونحن، السياسي والفكري، المعرفي والديني، وتحوّلت المحاضرة إلى يوم دراسي بشأن التاريخانيين والتوفيقيين والتحديثيين المؤمنين بحتمية مواكبة المسارات العلميّة الكونيّة بمنأى عما هو عرقي وعقائدي وماضوي.
فالحداثة ليست رهانات ذائقيّة أو إيديولوجيّة كما يسوّقها التيار التقليدي، بل هي ثورة فكريّة ضد السذاجة والشعوذة وكافّة مظاهر التخلّف، وصناعيّة ضد الوسائل التقليدية والاقتصاد السلبي، وتشريعاتيّة ضد القمع والعبوديّة، منطلقها الذات المفكّرة الساعية إلى تحقيق سيادتها، وهي حركة نقديّة على دوام لأنّها تموت إن ادعت الاكتمال.