هل يمكن تسييج ملكة التخييل في مجالي العلم والإبداع؟ هل الخيال وسيلة تضليل وإيهام أم هو بوّابة البحث والإلهام؟ أيّ مبرّر لحجم اهتمام جل الفلاسفة والعلماء والمبدعين بالخيال عبر الصيرورة التاريخيّة؟ لماذا يعتبر ألبرت انشتاين التخييل أكثر أهميّة من المعرفة؟ ما الفرق بين الخيال في المجال الإبداعي وخيال العلماء؟ وهل من معنى لكينونة تضيّق من فسحة الخيال؟ هل يستقيم الوجود في كليته إن استقال الخيال؟
أطلق المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون” بيت الحكمة” العنان لضيوف قصره ومتابعي مواقعه الإلكترونية كي يحلّقوا في أفضيّة خيال الفلاسفة والعلماء والمبدعين بأجنحة أمسيّة تنهل من ينابيع الفلسفة والعلم والأدب وشتى الفنون، قدّمت خلالها الأستاذتان حبيبة بوحامد الشعبوني رئيسة قسم العلوم الرياضيّة والطبيعيّة ببيت الحكمة وهادية حبيب عبد الكافي محاضرة بعنوان تحويل الكائنات الحيّة: إلى أين يمكن للتخييل أن يحمل العلم والعلماء؟
أشرفت على هذه الأمسيّة التي بثّها المجمع مباشرة على صفحة الفايسبوك الدكتورة سعاد كمون شوك الرئيسة السابقة للقسم، مشيرة إلى أنّ الكائن الحي “ظلّ مركز اهتمام الفلاسفة في حقبة ما قبل التخصّص”، حيث كانت الفلسفة الحاضنة الفكريّة المعنيّة بالتشريح المعرفي لمكونات الكوسموس، ومنها خارطة الكائنات الحيّة. وللبرهنة على وجاهة مقاربتها ذكّرت الأستاذة سعاد شوك بمقولات أبرز أقطاب التفكير الفلسفي ذات العلاقة بالإشكاليّة المطروحة،بدءا من أرسطو وصولا إلى فلاسفة التحديث والتنوير مثل ديكارت وكانط. ويعدّ التشريح العلمي ونظريات التطوّر وتحوّلات الأنواع امتدادا طبيعيا للثورات العلميّة اللاحقة وخاصّة مسار التخصّص العلمي المقتحم تدريجيا لعالم أسرار هذا الكائن المعلوم أحيانا والمجهول أحيانا أخرى. وهنا تتنزّل القيمة الإيبستيمولوجيّة للتخييل، تلك التي تحوّل المجهول إلى معلوم والمعلوم إلى مجهول جديد يمكن أن يتحوّل في كلّ لحظة إلى معلوم إلى ما لا نهاية، لذلك حلّلت أستاذة الطب حبيبة الشعبوني قصديّة عبارة ألبرت انشتاين “التخييل أهم من المعرفة” من خلال سردها لاكتشافات علميّة متصلة بمسيرة الكائن الحي، فلم يكن من الممكن إدراكها في رأيها لو لم يقطع العلم مع القناعات الكسولة. لقد انشغل الكائن العاقل وفقا لمقاربتها منذ الثورة المعرفيّة بعالمه وبمحيطه في أبعاده المختلفة ومسار تطوّر الأنواع. فالتخييل في المجال العلمي في رأي الأستاذة الشعبوني لا يعني التجريد المفضي إلى تأويلات بالمعنى الميتافيزيقي المحض، بل سلسلة من مراحل يحتّمها الاكتشاف العلمي تتمثّل في معادلات “الملاحظة، التحليل، التجربة، التأويل، التخييل” وفي
هذا الصدد ذكّرت بمقارنة انشتاين بين المنطق الذي ينقل الباحث من نقطة إلى نقطة والتخييل الذي يسمح برحلة استكشافية مفتوحة على دوام، يكتشف عبرها رحّالة العلم أسرار الكائن الحي وجغرافيا قارّته. وفي إطار تمييزها بين تخييلي العالم والفنان أشارت الأستاذة الشعبوني إلى أنّ “العلم يوظّف الخيال بحثا عن الحقيقة والفنّان يستثمر خياله في رسائله التعبيريّة”، منسجمة في ذلك مع الباحثة هادية حبيب عبد الكافي المتشبّثة في مداخلتها بالعلاقة الجدليّة بين التخييلين نظرا إلى كثافة مواطن التقاطع بين الجنسين المعرفيين، فالعلم والأدب غير منفصلين على حدّ عبارتها والدليل الأدب العلمي مثل الرواية العلميّة وبقية الأجناس الإبداعيّة، إذ يصعب أحيانا رسم المسافات بين التخييل الفني والأدبي والعلمي، فالقاسم المشترك يتمثّل وفقا لأطروحتها في قدرة الخيال على تنمية قدراتنا المعرفية في مجالات الاختراع والإبداع والمحاكاة، مركّزة على رهانات دلاليّة قوامها تفكيك مقاصدي لعبارات الخيال، الصورة، التخييل، فلولا هذه المفردات لما تنعّمت الإنسانيّة بالمنجزات العلميّة المتتاليّة وإبداعات بودلير وفولتير كاشفة عورة الوعي المغلق غير القادر على مجاراة الخيال الإبداعي والاختراعات العلميّة. لذلك نحن بحاجة اليوم إلى وعي يجدّد نفسه عبر إكسير التخييل لأنّ تاريخ المعرفة تجاوزي، اختزله الإيبستيمولوجي غاستون باشلار في مقولته الشهيرة “تاريخ العلم هو تاريخ تصحيح الأخطاء” ولو لا سفن الخيال لما أدركنا عديد المرافئ المعرفيّة، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الفكر التأملي والإبداعات فلو لا المجاز والتجريد والاستشراف لما تنعّمنا بربى الحكماء وجنان المبدعين.