لماذا تتداخل الاختصاصات العلميّة والمعرفيّة في المجال الموسيقي؟ هل يعكس كل مبحث موسيقي خلفيّة فكريّة؟ ما الذي يبرّر تحوّلات الممارسة الموسيقيّة؟ كيف ينتج المجتمع الاستهلاكي أنماطا موسيقيّة استهلاكيّة؟ ما مدى مشروعيّة الإقرار بشموليّة الظاهرة الموسيقيّة؟ كيف تطبّق المناهج السيميولوجيّة والتجريبيّة في الأعمال الموسيقيّة؟
واكب روّاد المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” على امتداد يومي 10-11مارس 2022 هذه الأسئلة المفتوحة باطّراد في ندوة دوليّة حول تداخل الاختصاصات في الموسيقولوجيا، واستمرّت فعالياتها في اليوم الموالي في رحاب المعهد العالي للموسيقى بتونس مجسّدة مفهوم الشراكة العلميّة حيث انعقدت بالتعاون بين المجمع ومؤسّسات جامعيّة تونسيّة ومخابر تعنى بالبحث العلمي مثل المعهد العالي للموسيقى ومخبر البحث في الثقافات والتكنولوجيات الجديدة والتنمية. وتتضمّن مقاربات ذات أهميّة علميّة قصوى وفقا لرئيس المجمع الدكتور محمود بن رمضان في كلمته الافتتاحيّة نظرا إلى كثافة مداخلات جلساتها العلميّة، إضافة إلى تنوّع أطروحات المحاضرين من مبدعين وأكاديميين مختصين تونسيين، وخبراء من دوّل عربيّة وغربيّة، كما أشار إلى أنّ فعاليات الملتقى ستنشر في سلسلة مؤلّفات المجمع. ونزّل المشرف على الندوة الأستاذ سمير بشة رئيس قسم الفنون ببيت الحكمة هذا التنظيم المشترك بين المجمع والجامعة التونسيّة ومؤسّسات البحث الشبيهة في إطار استراتيجيّة الأكاديميّة المنفتحة على المؤسّسات العلميّة المماثلة، مشيرا إلى أنّ الموضوع المطروح “قديم متجدّد”. فهو قديم من حيث هو إشكاليّة مطروحة في الأنسقة الفكريّة والمباحث المعرفيّة المتتاليّة عبر صيرورة التاريخ، لكنّه جديد بناء على مستجدّات مضامين ومناهج الفلسفات والعلوم المختلفة لأنّ كل تحوّل في بنية الفكر الكوني يعني آليّا لحظة مخاض في كافّة الضروب المعرفيّة المتداخلة وإن بدت لنا مختلفة، وهذا ما أدركته الإيبستيمولوجيات الحديثة المشدّدة على التداخل بين حقول المعرفة. لذلك ركّزت أغلب المداخلات على مواطن التداخل بين الأعمال الموسيقيّة والعلوم والفلسفات وجل الفنون. فمن الطبيعي جدّا أن تتطوّر الإبداعات الموسيقيّة تدريجيّا وفقا للتحوّلات المعرفيّة والسوسيو-ثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، فهي ليست حقول دلاليّة مغلقة وإن عانقت أقصى درجات الخلق لأنّها متجدّدة بالضرورة نتيجة لتحوّلات حاضنتها الإيبستيميّة والاجتماعيّة. فهي بوجيز العبارة ظاهرة بلغة علماء الاجتماع، ومعيش سيكولوجي حسب معجم المحلّل النفسي، وتقنيّة علاجيّة في مخبر الطب النفسي، وفسحة التنعّم بلا فتور وعطلة الروح للفيلسوف المتأمّل في تجليات خلقها، وهي المجال الذي تستثمر فيه كل مكوّنات النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. إنّها بالاختزال الشديد لحظة إبداعيّة مرتهنة بآلياتها وخلفياتها التي تتداخل فيها كل العوامل المنتجة للمشروع الفكري لأنّها محايثة لسياقها، ولن تكون متعالية مثلما أبرزت الباحثة سميحة فارح في مداخلتها حول البحث الموسيقولوجي المعاصر في تونس. وقد يتمظهر المنجز الموسيقولوجي بما هو الجنس المعرفي المستقل بذاته بناء على مقوّمات تخصّ بنية خطابه وحقله الدلالي، لكن الأحاديّة لن تقول كنهه الشمولي، وهذا ما أبرزته الباحثة عائشة قلالي في مداخلة تطرّقت إلى إشكاليّة الموسيقولوجيا بين أحاديّة الخطاب وتعدّد الاختصاصات.
صفوة القول أجمعت أغلب مداخلات الجلسات العلميّة على عدم مشروعيّة فهم وتحليل العمل الموسيقي بمعزل عن باقي الأجناس المعرفيّة والعلميّة، وهو ما تؤكّده جل الأطروحات منذ الحقب التاريخيّة القديمة مثلما ورد في مداخلة الباحث حلمي بن نصير في مقاربة حول توظيف الآليات التكنولوجيّة والمقاربة الأكوستيكيّة في التحليل الموسيقي، ذكّر فيها بالعلاقة بين المادة الموسيقيّة والرياضيات، تلك التي تناولها بروتاغوراس و أرسطو في السياق الإغريقي القديم، ثمّ أكّدتها لاحقا السينويّة (ابن سينا) وابن الهيثم والفلسفات الحديثة، منسجما في ذلك مع مقاربة الباحث الفرنسي Antoine Bonnet التي أبرز فيها “تأثيرات التوجّهات الفلسفيّة المعاصرة في التحوّلات الموسيقيّة الراهنة” لأنّ قيم الفردانيّة ومنظومة المفاهيم السائدة تتجلى بالضرورة في الأشكال التعبيريّة المختلفة بما فيها الوسائط التعبيريّة الموسيقيّة. ألم تتداخل موسيقى فاغنار مع فلسفة نيتشة ! ألم تسهم الفلسفات المنشغلة بعبثيّة الوجود في انتشار أنماط موسيقيّة هاجسها الأساسي وصف تراجيديا الأنطولوجيات المهووسة بالأسئلة ! ألا يستوجب تفكيك قصديات الإبداعات الموسيقيّة العالميّة الحفريات الفلسفيّة إن استعرنا عبارة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو ! ألسنا بحاجة إلى التسلّح بمفاهيم الفينومينولوجيا كي نشدّ الرحال نحو كواكب نخب الخلق الفني ! كم نحن بحاجة إلى مناهج السيميولوجيا والتحليل النفسي والسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا والألسنيّة و.. و.. كي نلمّ ببعض تضاريس جنان الموسيقى الفسيحة جدّا؟
تلك هي الموسيقى رؤية للعالم تجمع في خطابها بين جل المعاجم العلميّة والفلسفيّة والفنيّة مزهوّة بخطابها الفاتن، ولعلّ هذا ما اختزله الفيلسوف الألماني هيغل قائلا ” الفن لغة تخاطب الروح وإن كانت خرساء” وعلى الرغم من هذا الفائض التعبيري، تجدّد نفسها متحرّرة من باتولوجيا التورّم، والحجّة بعض مضامين النّدوة المسلّمة بحتميّة المزيد من الحفريّات في بنية الخطاب الموسيقي من جهة، وفي بنية جديد المعارف تدعيما لمنجز الموسيقولوجيا بوصفها مشروعا يموت إن اعتقدنا في طقوس كماله. ففي هذا السياق اهتمّت بعض الجلسات العلميّة بأبرز الإشكالات المطروحة في مجال العلوم الموسيقيّة على غرار الجلسة العلميّة الخامسة التي أشرف عليها منسّق الندوة الأستاذ وائل صمود، تلك التي قدّم خلالها الباحث المغربي سفيان غديرة وجهة نظره حول التكامل المعرفي في الدراسات الموسيقو-أدبيّة مؤكّدا محدوديّة بحوثنا المعرفيّة العربيّة في المجال الموسيقو-أدبي، كما ركّز في نفس الجلسة الباحث سيف الدين معيوف على محدوديّة المراجع المهتمّة ببعض الآلات الموسيقيّة وبمسارات تطوّرها. لنستشفّ ممّا تقدّم الأهميّة العلميّة للندوة بناء على اهتمام مقاربتها المتنوّعة بالمفاهيم والمناهج والنظريات مبرزة منجز الموسيقولوجيا، ومشخّصة رهاناتها وتحدياتها، لذلك لن نجانب الصواب إن اعتبرناها إغناء للكيان الموسيقي الكوني.
Mini concert présenté par l’orchestre occidental de l’ISMT
المواكبة الإعلاميّة