هل يستقيم الإقرار بوجود مشروع فلسفي تونسي اليوم؟ إن سلّمنا بوجود مدرسة فلسفيّة تونسيّة، فما هي أبرز مقوّماتها؟ كيف يمكن الجمع بين خصوصية التجربة الفلسفيّة التونسيّة والبعد الكوني للفعل الفلسفي؟ عمّا يتساءل الفلاسفة اليوم؟
أثيرت هذه الأسئلة الموغلة في الغموض وإن أوهمت بالوضوح والبداهة في أمسيّة نظّمها مؤخّرا قسم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة”، حيث قدّم الأساتذة فتحي التريكي ومحمد محجوب وجلال الدين سعيد مداخلات حول الاهتمامات الفلسفيّة التونسيّة، مركزين على الاهتمامات الراهنة، فمنزلة الإنسان مهما كانت سياقاته الزمنيّة وأطره المكانيّة مرتهنة بالتفلسف .
إجابة عن سؤال هل لنا فلسفة في تونس؟ ركّز الدكتور فتحي التريكي على مقاربة تاريخيّة تختزل المدرسة الفلسفيّة التونسيّة في ثلاثة أطوار، يتمثّل الطور الأوّل في فترة قرطاج، التي “سيطر عليها اللاهوت المسيحي” حسب المحاضر، وكانت وفقا لأطروحته فلسفة سياسيّة بالأساس، وعرف الطور الثاني بفترة القيروان ذات الصلة بالقضايا والحركات الدينيّة . أما الطور الثالث مثلما ورد في مداخلة التريكي فهو تحديثي اتّسم فيه الخطاب الفلسفي التونسي بتحوّلات في المضامين والمناهج، لقد ظهرت بكثافة فلسفة الرياضيات والمنطق والقيم التنويريّة وفلسفة الجنس لدى التيفاشي، الذي أصدر له المجمع التونسي “بيت الحكمة” كتاب متعة الأسماع في علم السماع ضمن سلسلة منشورات 2019 . بإيجاز تميّز هذا السياق بفلسفة الإصلاح، لكن القاسم المشترك بين الحقب الثلاث في نظر الأستاذ فتحي التريكي البعد التطبيقي، لذلك كانت التجربة الفلسفيّة التونسيّة مطبّقة على دوام . وعليه يستقيم وفقا لصاحب الفلسفة الشريدة القول بوجود تجربة فلسفيّة تونسيّة ذات معالم، وهو ما دعّمته عديد المقاربات خلال الأمسيّة ودحضته مطارحات أخرى، فعلى الرغم من طبيعة الإحراج المعرفي لسؤال هل هنالك فلسفة تونسيّة اليوم؟ وعلى الرغم من محدوديّة إسهامات الفلسفة التونسيّة في الفكر الفلسفي العالمي، لا يمكن برأي الأستاذين محمد محجوب وجلال الدين سعيد تغييب التجربة التونسيّة بما تتضمّن من أعلام مهتمة بالمعيش التونسي فلسفيا وما أضافته جهود الأكاديميين والباحثين والمترجمين التونسيين للمشروع الفلسفي العالمي . تظل الفلسفة حسب محمد محجوب كونيّة لكن هنالك “محاولات فلسفيّة تونسيّة ترصد إشكالات الواقع التونسي” . تلك هي السجالات الفلسفيّة عصيّة عن الحسم، وداحضة لكافّة أشكال الوثوقيّة، الأسئلة فيها أهم من الأجوبة، بل كل إجابة فيها حبلى بأسئلة، ناطقة أحيانا وصامتة أحيانا أخرى، لذلك كانت الأمسيّة سجاليّة بامتياز، وربما هذا ما اختزله الدكتور عبد المجيد الشرفي في دعوته إلى ضرورة تنظيم لقاءات وندوات للبحث فلسفيا في قضايانا الراهنة . صفوة القول يظل السؤال الفلسفي ماهويا بالضرورة إن استعرنا عبارة الفيلسوف الألماني هيدقر، ويبقى التمييز بين الفلاسفة وعمّال الفلسفة مشروطا بالتمييز بين المؤسسين لمشاريع فكريّة مؤثّرة في قضايا الشأن العام والتقنيين الذين يقتاتون من مفاهيم غيرهم .