لماذا عدّت الموسيقى أهم وسيلة تسلية؟ هل حقّا يمثّل الابداع الموسيقي الفن الأكثر رواجا؟ كيف اتّسمت التجارب الموسيقيّة بالهالة الأسطوريّة ولماذا هامت بها بعض الشعوب إلى حدّ الهوس؟ ما علاقة الفعل الموسيقي بالشعائر الدينيّة وأيّ مبرّر لبلوغ مرتبة تقديس بعض الموسيقيين؟
تلك هي أبرز الإشكالات التي ناقشها أكاديميون ومهتمون بالشأن الموسيقي مؤخّرا في لقاء فكري نظّمه قسم الفنون بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة”، وقدّم خلاله الباحث المختص في أركيولوجيا الموسيقى الأستاذ أنيس المؤدّب محاضرة حول الفنون في تونس خلال التاريخ القديم: الموسيقى نموذجا. ويعدّ المحاضر من أبرز المهتمين بهذا الاختصاص النادر، والذي يستوجب خلفية معرفية ذات علاقة بالعلوم الإنسانيّة أساسا حسب تقديم رئيس قسم الفنون بالمجمع الأستاذ سمير بشّة. وفي إطار تفكيك تلك الإشكالات ذكّر المحاضر بالتعابير الفنية المختلفة التي ميّزت تاريخ قرطاج المنير للحضارة العالمية وإن استهدفته ظلمات الاستعماريين، إذ لم تنجح حملة الرومانيين في إخراس الصوت الموسيقي القرطاجني، فسرعان ما استعادت منارة قرطاج إشعاع فنونها عموما وموسيقاها خصوصا. وللتأكيد على ازدهار الأعمال الموسيقيّة في رحاب هذه المنارة الحضاريّة العالميّة انطلق المحاضر من زوايا نظر مختلفة ومصادر متعدّدة، أبرزها علم الآثار الموسيقي بوصفه مبحثا مهتما “بالكشف عن الآلات الموسيقية واستعمالاتها”، فمن الطبيعي أن تترجم تلك الآلات وفنون استعمالاتها طبيعة التراث في بعديه المادي واللامادي. وعليه يمكن تقصي خصوصية الثقافة الموسيقية الرائجة في ذاك السياق، كما اعتمد الأستاذ المؤدّب المصادر الفلسفية والأدبيّة والتاريخية للكشف عن الموروث الموسيقي القديم في تونس، ومن بين هذه المرجعيات القديس أوغسطينوس، الذي ترك كما ورد في محاضرته “آلاف الرسائل” حول الموسيقى والشعر وتصنيفات الآلات الموسيقية والعشق الموسيقى إلى حد الهوس آنذاك. وكذلك الشأن بالنسبة إلى مؤلفات المنظّرين ترتليانوس ومرتيانوس، فهي مؤلّفات ورسائل غزيرة حول طبيعة التجارب الموسيقية في قرطاج خلال الحقبة القديمة، وخاصة رسائل المنظّر المسيحي ترتليانوس المتطرّقة إلى طابع القداسة المميّز للموسيقى والموسيقيين لدى القرطاجنيين. ففي هذا الصدد يشدّد أنيس المؤدّب على ارتباط الابداع الموسيقي بالممارسات التقديسية عند البونيين، فهي ابداعات متمّمة للشعائر الدينية في نظرهم. ممّا يؤكّد حجم رواج الفعل الموسيقي باعتباره نشاطا يتخطى حدود التسلية ليغدو محدّدا لتوازن الذات وبالتالي تكون قرطاج عاصمة من عواصم الابداع الموسيقي وازدهار التعابير الفنية الكونية.