الله أكبر، الله أكبر،الله أكبر
أيها الراحل العزيزنودّعك اليوم الوداع الأخير، وقد غادرتَنا بعد حياة مليئة بالعطاء، ثريّة بالمعرفة، غزيرة الإنتاج. وإذ نودّعك بمشاعر الحسرة والأسى فإننا نودّع فيك أحد بُناة الجامعة التونسية الحديثة، والمثقّف الذي عرفَتْه أجيال من التونسيين في كلية الآداب والعلوم الإنسانية أستاذا قديرا في قسم الفلسفة، وأستاذا مَهيبا ومديرا مؤسِّسا لقسم علم الاجتماع في هذه الكلية، ورئيسا للجان الامتحانات والانتداب والترقية إلى مختلف الدرجات، وعرفَته مخابر البحث في العلوم الإنسانية داخل تونس وخارجها حين أشرفتَ على حظوظ مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية لسنين عديدة، كما عرفَه المختصّون التونسيون والأشقاء والأصدقاء في سائر فنون المعرفة، كما الجمهور العريض في الندوات والمؤتمرات التي نظّمتَها بصفتك رئيسا للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون – بيت الحكمة وأشرفتَ على نشر أعمالها. نودّعك اليوم الوداع الأخير، أيها العضو الشرَفي في مجمعنا منذ أن أعيد تنظيمه بفضل الثورة، وقد عرفناك زميلا حازما ورجلا مطّلعا على آخر ما يُنشر في تونس وخارجها في ميادين عديدة تتّصل بالتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والإسلاميات والدراسات الدينية عموما، وقارئا حصيفا لذلك الإنتاج الغزير، لا تغرّه التقليعات العابرة ولا تؤثّر فيه الانتماءات الإيديولوجية المفضوحة أو المبطّنة. وكانت كتاباتك دليلا ناصعا على استقلالية الرأي وعلى التشبث بما هو أصيل في تراثنا ومقوّمات شخصيتنا، وبما هو مُعين على الفهم والتدبّر في إنتاج المحدَثين من المفكّرين والباحثين شرقا وغربا. نودّعك اليوم الوداع الأخير، ولكنّك ستبقى حيّا في نفوس قرّائك وعقولهم. إنّهم بكل تأكيد لن ينسَوا أنّك كنتَ سبّاقا إلى إثارة قضايا فكرية ومجتمعية من المسكوت عنها، وجريئا في طرق مواضيع يتحرّج الكثيرون من الاقتراب منها، ولا سيما كل ما يتعلّق بالجنسانية ومشاكلها وأبعادها الخفيّة، في غير مغازلة للغربيين، بل بالتأكيد على أن الموقف الإسلامي – نصوصا وممارسة – على نقيض النظرة المسيحية التي تؤثّم الجنس وتربطه بالخطيئة الأولى. كما كنتَ معارضا رصينا لما ينساق إليه الجمهور من مواقف أساسُها الجهل بأُسُس التديّن الصادق، ومدافعا في الآن نفسه وفي غير تعصّب عن توجّهات سياسة الدولة الوطنية التحديثية. فلا غرابة أن تكون أوّل من دُعِي من غير شيوخ الزيتونة إلى إلقاء محاضرة في جامع عقبة، بمسقط رأسك القيروان – عاصمة الإسلام الأولى في المغرب الإسلامي والتي كنت متعلقا بها طول حياتك – وذلك بمناسبة ذكرى المولد النبوي، ودافعت في تلك المحاضرة الشهيرة عن ضرورة مقاومة التزمّت والتخلي عن الانغلاق والتقاليد البالية التي ارتبطت بالدين في أذهان الناس وورثوها من عصور الانحطاط. نودّعك اليوم الوداع الأخير، وأنت الذي ساهم مساهمة فعّالة في ترسيخ البحث الاجتماعي ببلادنا، وتأصيله في تربتها، بعد أن كان حكرا على المنتمين، مباشَرة أو بصفة غير مباشِرة، إلى الذهنية الاستعمارية، فاهتممتَ من جملة ما اهتممتَ به بالإجرام وصلته بالتحولات الاجتماعية، وبمقوّمات التصنيع، وبعلاقة الجمهور بالعدل، وبواجبَيْ العلم والتنمية، وبعلاقة العرب والمسلمين بأوروبا، وبالمتخيّل المغاربي من خلال قصص الأطفال، وبظواهر الكبت المختلفة وصلته بالنظام السياسي، وحتى بمواضيع طريفة مثل ثقافة العطر، وغير ذلك من الأعمال التي كان لها الصدى الواسع في تونس ولدى المجموعة العلمية في كل مكان، ممّا أهّلك للحصول عل عديد الأوسمة ولفوزك بعديد الجوائز، مثلما أهّلك لتكون عضوا في أكثر من أكاديمية، ولأن تُستَضاف في الجامعات العريقة، ولأن تكون عضوا في المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو.هكذا كنت أيها الراحل العزيز وهكذا ستبقى آثارك علامة على الفكر المستنير وشاهدا على أنّ الأجساد تفنى ولكن الأفكار باقية على مدى الأيام لا تزول بغياب أصحابها. ذاك هو عزاء كلّ من عرفك عن قرب من أفراد أسرتك ومن تلامذتك وزملائك، وقدّر كفاءتك وريادتك. فسلام على روحك الطاهرة، وإنا لله وإنّا إليه راجعون.