ما الكوني؟ هل هو المطلق؟ ما مدى مشروعيّة الأطروحة التي تختزله في عبارة الكلي؟ أيّ معنى للإقرار بأنّه العام؟ هل هو الكائن أم ما يجب أن يكون؟ هل يمكن لما هو خصوصي أن يكون في بعض السياقات كونيّا؟ ماهي طبيعة نزاعات الكوني؟ كيف يدحض الكوني منطق المركزيّة الثقافيّة؟ أثيرت هذه الأسئلة خلال ندوة انعقدت في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” يومي 9-10 ديسمبر2021 نظّمها قسم الدراسات الإسلاميّة بالمجمع بالتعاون مع الجمعيّة التونسيّة للدراسات الصوفيّة حول إشكاليّة الكوني في التراث الصوفي، وتتنزّل التظاهرة ضمن سلسلة أنشطة القسم المهتمّة منذ الموسم الأكاديمي الماضي بإشكاليّة الروحانيّة وفقا للكلمة الافتتاحيّة التي قدّمها الدكتور محمود بن رمضان رئيس المجمع مؤكّدا تنوّع المداخلات لاعتبارات تتّصل بتعدّد المعضلات التي يطرحها مفهوم الكونيّة من جهة، ولتنوّع المتدخّلين من مجمعيين وباحثين من جهة ثانية، كما أبرز في هذا السياق رئيس القسم الأستاذ احميدة النيفر أهميّة البحث في القضايا الروحانيّة في سياقاتنا الراهنة المتّسمة بمظاهر الأزمات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة. فمن الطبيعي أن يطرح الكوني أسئلة فلسفيّة ودينيّة وأنطولوجيّة لأنّ الولوج إلى الكوسمولوجيا الصوفيّة يقود بالضرورة إلى اقتحام كهوف أسئلة “معنى الكون ومعنى الإنسان في هذا الكون” على حدّ عبارة الدكتور عبد المجيد الشرفي الذي ترأس الجلسة العلميّة الأولى، ويصطدم المتأمّل في تضاريس الكوني في التراث الصوفي بدروبه الوعرة ذات الصلة بعتمة درب تعريفه، لذلك اختلفت حوله أنسقة النص الفلسفي ومقاربات المناطقة والأطروحات اللاهوتيّة. إنّه بكل اختزال رحلة استكشافيّة في كوكب الأسئلة المتعلّقة بقضايا الخلق والوجود والعلاقة بين المتناهي واللامتناهي، وهذا ما اهتمّت به مداخلة رئيس الجمعيّة التونسيّة للدراسات الصوفيّة الأستاذ توفيق بن عامر تلك التي انتهت إلى أنّ معيش التصوّف مساءلة تتّصل “بالغاية من خلق الكون وبعمليّة الخلق في حدّ ذاتها” وبالعلاقة بين الذات البشريّة والذات الإلهيّة، وهو ما يعبّر عنه بمراتب الوجود الذي يختلف باختلاف ضروب المعيش والنظم الثقافيّة ممّا يفسّر تركيز الكثير من المداخلات عل مفاهيم “المختلف والمشترك الثقافي”، و”الكوني الموحّد بين المغاير” و”المؤتلف المستنبط من المختلف”، فالخصوصي يحمل في غياهبه شروط تحوّله إلى ما هو كونيّ، وعليه يزعزع مفهوم الكوني أوهام المركزيّة الثقافيّة لأنّ الخصوصيّة حاضنة لكافّة الطاقات الإبداعيّة الكامنة في أعماق الذوات البشريّة. بالمعنى الوجيز تمثّل النزعة الكونيّة وفقا لفعاليات الندوة دحضا لجميع الأطروحات الدغمائيّة المعتقدة في مشروعيّة الانغلاق بحجج الخصوصي والتفوّق والكمال الخ.. لنستخلص الأهميّة القصوى لمنزلة جل الخصوصيات في تشكّل الكوني بما هو جوهر العقل من حيث هو القاسم المشترك بين الكيانات الإنسانيّة حسب العبارة الديكارتيّة. فمن البديهي جدّا أن تفضي هذه المقاربات إلى استكناه حقيقة التكامل بين ثنائيات:
-العام والخاص.
-الكلي والجزئي.
-الموضوعي والذاتي.
كذا هو معيش الكوني في التراث الصوفي تزول فيه الفوارق ويتجسّد عبره ” مطلب السلم مع الذات بالنظر إلى المقامات والمجاهدات الصوفيّة من ناحية، وبالنظر إلى هرميّة الروح” كما ورد في مداخلة الأستاذة سارة الجويني حافيز، التي خصّصت مداخلتها لإشكاليّة مظاهر السلم في الفكر الصوفي، مشيرة إلى أنّ عمق التجربة الصوفيّة يكمن في روحانيّة التواصل بين المتناهي واللامتناهي الذي يحصل بواسطته “الإشراق الصوفي”، وغالبا ما يكون المعيش الصوفي متعاليا عن الوصف والاختزال، فتجربة “المحبّة الإلهيّة عاطفة نفسيّة روحيّة ذاتيّة” قوامها “الارتقاء بتجربة العشق والمعرفة إلى منازل عاليّة” وفقا لمداخلة الأستاذ محمّد الكحلاوي حول الكوني في تخييل المحبّة لدى الصوفيّة. ولأنّ التديّن ظاهرة كونيّة تناول أغلب المتدخّلين المسألة الدينيّة بوصفها تجربة غنيّة بالمظاهر الروحانيّة المشبعة للاحتياجات السيكولوجيّة والأنطولوجيّة، وهو ما تقرّه العلوم الإنسانيّة وخاصّة مدارس علم النفس، كما أبرزت ضرورته القصوى الأنسقة الفلسفيّة، لذلك يتجدّد يوميّا التراث الصوفي العالمي باعتباره “بؤرة معان متجدّدة” إن استعرنا فلسفة بول ريكور التي استندت إليها الأستاذة مريم جاب الله في مداخلة اعتنت بتأويل الكوني في التراث الصوفي موضّحة مكانة التأويل الذي يجعل من الأعمال الصوفيّة الكونيّة ديناميكيّة على دوام، ونابضة منعشة للروح المنهكة عبر المسار التاريخي.
فمن الطبيعي أن تتعدّد التجارب الروحيّة من خلال التنوّع السلوكي والمرجع القيمي والتنظيري، كما تختلف أشكال التفاعل مع هذه التجارب، لكن يظل المشترك علامة الكونيّة، وعليه تدعو الفلسفات المتحرّرة من الانتمائيّة الشوفينيّة والإقصائيّة إلى الإنسان الكوني.
ديباجة وملخّصات
المواكبة الإعلاميّة