أين تتجلّى أهميّة التصوّر في المجال الفني؟ ما طبيعة الرحلة من النظري إلى التطبيقي في الإبداعات الفنيّة؟ هل تتنزّل جميع الأعمال الفنيّة ضمن استراتيجيا تطبيقيّة هادفة؟ أين تكمن أهميّة فهم العلاقة بين الشكل والمنطلقات الفكريّة للعمل الفني؟ باختزال شديد بماذا تتّسم العلاقة بين الخطاب والممارسة في الفنون؟أثيرت هذه القضايا الفكريّة في لقاء نظّمه قسم الفنون بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” يوم الخميس 27 جانفي 2022 حول العلاقة بين الخطاب والممارسة في الفنون، وأشرف على الجلسة الأولى الأستاذ سمير التريكي، ثمّ تولى الأستاذ معز مرابط رئاسة الجلسة الثانيّة. واهتمّت جميع المداخلات على امتداد الجلستين بطبيعة الخطاب في الأجناس الفنيّة المختلفة مبرزة الأهميّة القصوى لتأثيره في فهم بنية النص الفني باعتباره منطلقات فكريّة بالضرورة، لذلك ينبثق الفعل الإبداعي من مخاض الإرهاصات التأمّليّة في المعيش الفردي والجماعي. وركّز كل محاضر على حقل دلالي فني مفكّكا طبيعة ميكانيزماته التعبيريّة، إذ تناولت الأستاذة فاتن شوبة سخيري خطاب الصورة في مداخلة باللغة الفرنسيّة عنوانها Autopoïétique: une histoire à rebours موضّحة خصوصيّة عالم الرسومات والفيديوهات حيث تؤسّس كل لوحة تشكيليّة أو فيديو علاقة اتصاليّة بين فكرة ثاويّة في أعماق باث وقراءة ينتجها المتلقي، كما شخّصت مداخلة الأستاذ فاتح بن عامر مقوّمات التراسل ورحلة العبور من ضفّة التصوّر إلى مرافئ الإنجاز في بحوث وإبداعات الفنون التشكيليّة، تلك الرحلة العابرة لتضاريس رصد الوشائج بين ميلاد الفكرة ونشوة الإنجاز الفني. فلا يمكن وفقا لجلّ المداخلات فك شفرة البعد التعبيري دون اقتحام مملكة الوسائط الاتصاليّة مهما كان حقلها الدلالي، وهو ما يعبّر عنه في المقاربات الألسنيّة والفلسفات الاتصاليّة بالطبيعة الإشكاليّة للخطاب الذي يخفي حينما يقول ويقول حينما يخفي، وغالبا ما يخفي أكثر ممّا يقول، وإن قال يكون الإشكال في الممارسة التأويليّة. وعليه تكون معضلات النخبويّة والإبداعات المرتهنة بالجماهريّة ووظيفيّة التفاعل بين قطبي الخطاب موغلة في التعقيد، وفي هذا الإطار تطرّق الأستاذ محمّد الهادي الفرحاني إلى قضايا التباس المصطلح في المدوّنة المسرحيّة متسائلا هل تتجلى مهام الخطاب المسرحي في تنظيم الفوضوي؟ أم في خلخلة المنتظم؟ من الطبيعي جدّا أن يسهم العمل الفني في زعزعة النسق المغلق، لأنّه ليس مجرّد لحظة إستيتيقيّة خالصة ومتعاليّة بل هو براكسيسي المنزع وإن أوهم بالانغماس في الجمالي المحض، لذلك أثيرت مسألة الحوار التفاعلي خلال النقاش وفي مداخلتي الأستاذين فاخر حكيمة ووائل صمود حول التطبيق الهادف والممارسة الفنيّة بين جدليّة الفكر والتفكير من خلال التجربة الموسيقيّة. كذا هو الخطاب مفعم منذ نشأته بالإبهام فهل هو محكوم بقدريّة التسويق والانتشار ليلزم بخلع جلباب الخصوصيّة والتميّز؟ وهل يستقيم في مجاله الحديث عن الهويّة؟ وما مدى وجاهة المقاربات التي تنخرط في فخاخ ذلك؟ كما ورد في تدخّل لرئيس قسم الفنون ببيت الحكمة الأستاذ سمير بشّة المؤكّد على عالميّة الفعل الإبداعي الذي تنجبه سياقات، لكنّه ينفلت من قبضة التضييق باعتباره كونيّا وإن بدا خصوصيّا. عموما لن نجانب الصواب إن سلّمنا بالطابع الإشكالي للخطاب في الأنظمة المعرفيّة المختلفة ممّا دفع بالمنهج الفينومينولوجي إلى التشديد على أهميّة تشتّت القصديات وتنوّعها واتساع هوامش التأويل، فأغلب الإبداعات نعيشها ونتأمّلها تأويليّا بمنأى عن ثنائيّة الفهم والتفسير.
المواكبة الإعلاميّة