أيها الزميل الكريم والصديق العزيز والراحل الكبير
كم يصعب عليّ اليوم أن أقف لتوديعك الوداع الأخير. فلم أكن أتوقّع حين أهديتَني كتابك الأخير عن “التفكير في التاريخ والتفكير في الدين”، منذ حوالي شهر فقط وحين صدور الكتاب، أن لا تكون حاضرا في تقديمه ببيت الحكمة، وقد برمجنا هذا التقديم لبداية الشهر القادم على أمل أن تكون إذ ذاك قد استرددت عافيتك. ولكنّ المنيّة كانت أسرع فخطفتك لا من أسرتك ومن زملائك وأصدقائك وتلامذتك فحسب، بل من المجموعة العلمية في تونس وفي العالم، ومن عموم قرّائك ومتابعي نشاطك الفكري الإبداعي.
كم يصعب عليّ اليوم أن أقف لتوديعك الوداع الأخير، لا فقط لأنّ الزمالة والصداقة جمعتانا منذ أكثر من أربعة عقود، بل لأنّنا حين نودّعك فإنما نودّع فيك أحد عمالقة الفكر التونسي والعربي والإسلامي الذي تجاوز إشعاعه محيط اختصاصه في التاريخ إلى رحاب الفلسفة الكونية والفكر النيّر في كل مكان. وإذا كانت أطروحتك التي لم تناقشها إلا سنة 1981 عن الكوفة قد كرّست تمكّنك من البحث العميق في التاريخ الإسلامي، فإنّ الاعتراف بقيمتك العلمية لم ينتظر مناقشة تلك الأطروحة بعد أن نشرتَ كتابك عن “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي” سنة 1974 و”أوروبا والإسلام” سنة 1978، وعديد الفصول التي ساهمتَ بها في المجلات العلمية والتآليف المشتركة. وما زلتُ أذكر ذاتَ ملتقى عالمي اشتركنا في حضوره بجنيف في سبعينات القرن الماضي وحرصتَ على أن تنفي فيه علَنًا نعتُ مقدّمك إياك بالدكتور، إذ لم تكن بعدُ قد ناقشت أطروحتك ونلت هذه الرتبة العلمية.
وإذ أجد اليوم صعوبة في توديعك فلأنني على يقين بأنّ الكلمات القليلة التي جرت التقاليد أن تلقى في تأبين الراحلين لن تفِيَك حقّك مهما سعت إلى الإحاطة بخصالك. وكيف لي أن أعبّر عن مزايا أستاذ خبرته وأنا زميل في دار المعلمين العليا وعميد في كلية الآداب، كان طلبته يتلهفون إلى حضور دروسه وينتظرونه متى تأخّر، ولا يبالون وقد امتدّ درسه أن يفوتهم وقت الغداء في المطاعم الجامعية أو موعد انطلاق الحافلة، وأستاذهم لا يعترف بحدود التوقيت الإداري الذي يجمعهم به.
بل كيف لي أن أبيّن ارتقاء بحوث مؤرّخ ومفكّر ينتمي إلى بلاد متواضعة المساحة والموارد وعدد السكان إلى مرتبة المراجع الكلاسيكية التي لا غنى عنها للباحثين مهما تعدّدت مشاربهم، على غرار “الفتنة الكبرى” المنشور بالفرنسية سنة 1989 و”تأسيس الغرب الإسلامي” المنشور سنة 2004 و”في السيرة النبوية” بأجزائه الثلاثة المنشورة ما بين 1999 و2014، والمترجمة كلّها إلى أكثر من لغة.
وكيف لي أن أكون وفيّا في التعبير عن منزلة مثقّف بأتمّ معنى الكلمة، يحاور عظماء المفكّرين من القدماء والمحدثين في الشرق والغرب محاورة الند للند. ولم يكن التاريخ بالنسبة إليه مجرّد اختصاص ضيّق بقدر ما كان مدخلا إلى تفهّم أفضل للماضي والحاضر في الآن نفسه وإلى الانخراط فيما يهمّ الشأن العام على الصعيد الوطني وعلى الصعيد الإقليمي وحتى على الصعيد العالمي. ويكفي أن نذكّر في هذا المجال بأنه قبِلَ رئاسة اللجنة التي تكوّنت لمساندة العراق حين تألبت عليه القوى الامبريالية في حرب الخليج الثانية.
لقد اجتمعت فيك، أيتها المنارة التي لن تنطفئ، حدّة الذكاء وسعة الاطّلاع والرغبة في المعرفة، وكان التكوين الصادقي المتين في اللغات العربية والفرنسية والإنقليزية، والاحتكاك بأساطين الباحثين في السربون وفي غيرها من الجامعات الأمريكية والعربية، خيرَ مُعين وسنَد لك في التفوّق على أقرانك، وفي القدرة الفائقة على التحليل والنقد والاستنتاج.
ومكّنتك مواهبك العديدة، وأنت الحسّاس والمحبّ لقرينته والمغرم بالشطرنج، من تعرية الواقع بكثير من الجرأة التي تفضح ما يحرص السياسيون على إخفائه، على غرار مقالك بالفرنسية “الوصوليون وصلوا”، ذاك المقال الذي أثار حفيظة الرئيس بورقيبة واضطرّه إلى الرد عليك في خطاب عمومي، أو المقال الذي نشرته بمجلة حقائق سنة 1988 وبيّنت فيه انحدار حكم بن علي إلى نظام استبدادي.
وإذا كان بعض منتقديك يرون في انتمائك الأُسَري سببا فيما يعتبرونه تعاليا أو احتقارا فإنّ مردّه، فيما أقدّر وحسبما عرفته في معاشرتك ويشهد عليه طلبتك ومجموع محاوريك، إلى اعتداد بالنفس وتقدير للفكر على ما سواه، وإلى اشمئزاز من الرداءة والسخف قبل كل شيء.
وفي تقديري كذلك أنّ ما استخلصه بعضهم من مهادنتك للإسلام السياسي لم يكن البتّة من باب التعاطف الفكري أو السياسي معه، وأنت الذي أعلنتَ صراحة “إذا كانت هذه هي النهضة فكيف يكون السقوط !”، بل لأنك كنت تنظر إلى الأمور عن بُعد ومِن عَلٍ، مثلما يدل على ذلك كتابك “أزمة الثقافة الإسلامية”، المنشور سنة 2004، فيتراءى لك المزج بين السياسة والدين على حقيقته: أنه ظاهرة عابرة لا تأثير لها في المدى الطويل وستزول بزوال أسبابها إذا قُدّر للعرب والمسلمين أن يسلكوا مسالك الترقي.
إنّ أعضاء المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بيت الحكمة، وقد ترأستَه في فترة تأسيسية دقيقة بعد أن كان معطّلا طيلة عشرين سنة كاملة، وكافة أعضاء الأسرة الجامعية والأكاديمية والعلمية، قد فقدوا برحيلك أحد أعمدتهم الأساسية وصاحب القيمة الاعتبارية المتميّزة. وعزاؤهم أنّ ما تركته من الآثار سيخلّد ذكرك على الدوام. فسلام على روحك الطاهرة، ونَمْ هنيئا إلى جوار العباقرة والخالدين.
عبد المجيد الشرفي