تتّسم كل الثقافات بخصوصيات تعبّر عنها الدراسات المهتمّة بالشأن الثقافي وتحديدا البحوث الأنتروبولوجيّة بالهويّات الثقافيّة، لكن هل هي هويات مكتفية بذاتها؟ بمعنى هل هي مغلقة؟ أم مفتوحة بالضرورة؟ للحفر في بنية هذا الإشكال نظّم قسم الآداب بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” يومي 25-26 نوفمبر2021 ندوة دوليّة حول الموروث الأندلسي في تونس منذ القرن الثالث عشر إلى اليوم قدّمت خلالها نخبة من الكتّاب والأكاديميين والباحثين المنحدرين من سياقات ثقافيّة تونسيّة وغربيّة مداخلات تزاوجت فيها اللغات العربيّة والإسبانيّة والفرنسيّة. ولئن تنوّعت المداخلات في مستوى المواضيع المطروحة فإنّ القاسم الموحّد بين جلّها كامن في حجم حضور التراث الأندلسي في هويّة المشروع الثقافي التونسي عموما، ممّا يفسّر تنوّع مقاربات المحاضرين، إذ أسهمت كافّة الأقسام العلميّة لمجمع بيت الحكمة في محتوى التظاهرة نظرا إلى تعدّد أبعادها، فهي “علميّة وأدبيّة وفنيّة واحتفاليّة” كما ورد في الكلمة الافتتاحيّة للدكتور محمود بن رمضان رئيس المجمع، وانطلقت فعاليات إعداد النشاط منذ سنتين وفقا لرئيسة قسم الآداب الأستاذة رجاء ياسين بحري التي ترأست جلسة علميّة أولى تناولت بصمات الأندلسيين السياسيّة والاقتصاديّة والألسنيّة في المشروع الحضاري التونسي، ففي هذا الصدد أبرز الأكاديمي الفرنسي المختص في العلوم الاجتماعيّة برنارد فانسون أهميّة أنشطة الموريسكيين في المجالات الاقتصاديّة خلال القرن السابع عشر تلك التي “أدخلت بعض المهن والحرف” في النسيج الاقتصادي التونسي، خاصّة في المجال الحرفي والصناعات الغذائيّة والزراعة والأشكال المعماريّة التي أغنت الحركة الاقتصاديّة التونسيّة. وهذا ما وثّقه المؤرّخ ابن أبي دينار في كتاب أخبار إفريقيّة وتونس، وتوثّقه كتابات ابن أبي الضياف، بل تعترف به حسب مداخلات الندوة كتب المؤرّخين الأوروبيين عموما والإسبانيين خصوصا حيث أشار جل المحاضرين إلى أنّ الهجرة الطوعيّة أو القسريّة إثر سقوط غرناطة أفضت إلى استقرار الموريسكيين في كثير من أقاليم البلاد التونسيّة، مستثمرين تشجيع عثمان داي الذي “شرّع لهم بالتعمير بكل حريّة”. باختزال شديد احتضنت البلاد التونسيّة خلال التهجير القسري إثر سقوط غرناطة سنة 1492العدد الأكبر من الموريسكيين وتحديدا 80.000 كما ورد في مداخلة للأستاذ محمود طرشونة بعنوان “مهاجر زاده الخيال” ركّز فيها على مأساة التهجير التي كانت في نظره تراجيديا مخصبة للفكر والإبداع لأنّ المهاجر الموريسكي حمل معه ذاكرته وزاده الفكري والإبداعي، حيث تقاطعت مهاراته مع سياق احتضنه فكانت النتيجة التثاقف المثري. وعليه يمثّل الموريسكيون تجربة تراثيّة ماديّة وغير ماديّة متنقّلة كما أكّد السفير الإسباني في تونس، لنستشفّ ممّا تقدّم مقوّمات التداخل بين تجارب الثقافات والحضارات بماهي مقيمة في أعماقنا وفقا لثنائيّة التبني والبناء، لأنّ الأفكار تنتقل على عكّاز الترجمة على حدّ عبارة الأستاذ منصف الوهايبي في قراءة لما بين المالوف والموشّح، كاشفا عن سفن عبور الأفكار والإبداعات دون الحاجة لأيّة تأشيرة، فذائقة الجمال وسلطة النص وحاجة الأنا لما هو إبداعي هي القنوات المانحة لتأشيرة عبور الفنون من ضفاف إلى أخرى. لذلك اهتمّ الأستاذ جلول عزونة بإنيّته والأندلس في مداخلة عنوانها “أنا والأندلس: شهادة وحصيلة” متسائلا هل يمكن أن نتخلّص من الحب الأندلسي؟ ثمّ يشدّد في إجابته على استحالة شفائه من عشقه لطوق الحمامة، فنصوص ابن حزم وابن زيدون تسلّلت لأعماقه منذ فجر التعلّم، مرورا بمساراته المتتاليّة، ووصولا إلى التخصّص الأكاديمي في فرنسا.
ولئن ركّز بعض المحاضرين عن الهجرة الأندلسيّة نحو تونس ما بعد سقوط غرناطة، وعن التأثيرات الاقتصاديّة والفكريّة والابداعيّة، اهتمّ بعضهم بالهجرة السابقة لهذا التاريخ وبمواضيع مغايرة على غرار مداخلة الدكتورة آمال بن عمار قعيّد التي أكّدت على أنّ” تونس كانت وجهة مفضّلة للمهجّرين الإسبانيين” لاسيما في القرن الثالث عشر، إذ ذكّرت بعديد المدن التي آوتهم في الجنوب مثل نفطة وتوزر وقفصة، وفي الوسط على غرار القيروان، إلى جانب المدن المعروفة بكثافة العائلات ذات الأصول الإسبانيّة كمدينة تستور وبعض المدن الساحليّة، فمن الطبيعي أن يفضي ذلك إلى تداخل جيني، وبالتالي لم يعد الموروث حكرا على ما هو اقتصادي وفكري وألسني بل أصبح جينيّا.
ولأنّ الحياة دون موسيقى فاقدة للأوكسيجين، خصّصت الندوة لعالم الموسيقيين مجموعة من المداخلات حول التراث الأندلسي وتأثيره في المشروع الفني التونسي، إنّه بوجيز العبارة غنيّ بفنون مباهج الحياة المتجسّدة في الزجل والأدب المعطّر والغناء الموقّع، لذلك يعدّ التزاوج بين فنون الأندلسيين وفنون التونسيين إغناء للتراث الفني الكوني.
المواكبة الإعلاميّة