تظلّ الهوة بين الشعار التسويقي وممارسات المعيش اليومي معضلة جل السياقات التاريخيّة لذلك يتجدّد باستمرار طرح الإشكالات التي نتوهّم لحظات الحماسة حسمها نهائيّا مثل الشعارات الحقوقيّة وكونيّة القيم وتثاقف الهويات لأنّ المتأمّل في مسارات التاريخ يصطدم بتلك الفجوة بين التنظير والبراكسيس، وغالبا ما تكون سحيقة جدّا لأنّ تحديّات الكوني متراميّة الأطراف، منها ما هو متعلّق بمظاهر الهيمنة إن كانت ماكروفيزيائيّة أو ميكروفيزيائيّة، ومنها ما هو مرتبط بطبيعة الهويّات وخاصّة تلك المتورّمة، ومنها ما هو مرتهن بعنف العولمة الخ .. وعليه تتنزّل ضرورة المقاربات المعرفيّة الشاملة المتضمّنة لحفريات الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأنتروبولوجيا والاقتصاد وعلماء النفس الخ .. من أجل فهم شروط إرساء قيم الكونيّة المستوعبة للهويات المتثافة بمنأى عن الهيمنة والوصاية المرضيّة. وفي هذا السياق تتنزّل ندوة دوليّة انعقدت مؤخّرا في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” بعنوان “الكونيّات و الهيمنة والهويّات” نظّمها قسم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بالتعاون مع الجامعة الألمانيّة Sarrebruck . وناقش خلالها أكاديميون وخبراء ومهتمون بالشأن العام من تونس ومن جنسيات مختلفة، ومن ذوي الاختصاصات العلميّة والفكريّة المتنوّعة تحديات ورهانات تلك القضايا القديمة المتجدّدة يوميّا، منتهين إلى معادلة مفادها إن لم تستطع مجتمعاتنا تجسيد القيم الكونيّة المثلى والحقوق المنشودة فقد تسهم مثل هذه الجهود المعرفيّة في تحقيقها مستقبلا لتنعم بها الأجيال الجديدة على حدّ عبارة رئيس المجمع الدكتور محمود بن رمضان في خاتمة الفعاليات.
فمن الطبيعي جدّا أن يشكّل تحديد المفاهيم جوهر أي مشروع فكري لأنّنا غالبا ما نعاني من أزمة المفاهيم مثل التداخل بين الكونيّة والعولمة، كما نصطدم بالالتباس الذي غالبا ما يحدثه مفهوم الهويّة خاصّة لدى بعض المرجعيّات التي تستوعب الستاتيكيّة العقيمة على أنّها التمسّك بالخصوصيّة وبمقوّمات الإرث الفكري والتنوّع الخ. . وكذلك الشأن بالنسبة إلى عديد الظواهر ذات العلاقة بالعنف لكنّها تسوّق على أنّها الدفاع عن الذات مثل الحروب ومظاهر الإكراه المادي والرمزي التي تضفي عنها قوى الهيمنة ضروب الشرعيّة، وهي في الحقيقة فاقدة لكنه المشروعيّة. لذلك نكون ملزمين بتحديد مشروعيّة المشروعيّة عبر بوّابة التسلّح بتقنيات البداهة والوضوح ودقّة المفاهيم طارحين الأسئلة التاليّة:
من يحدّد الكوني؟ كيف نميّز بين المعايير الإنسانيّة للكوني والأغراض الآثمة للعولمة؟ هل يمكن بالفعل إرساء مجتمعات اللاهيمنة؟ أليست قيم الهيمنة ثاويّة في كل الزوايا؟ هل نحن أمام حتميّة الكونيّة النقديّة؟ وكيف نحصّن قلاع العالمي حماية له من عنف صنّاع العولمة؟
تلك هي أبرز القضايا التي اهتمّت بها جل المداخلات حضوريّا وعن بعد مؤكّدة على تفاقم التوتّرات بين الكوني والخصوصي، وبين نسيج العالمي وتجربة الفرد بسبب عولمة التبادلات وصيغ التواصل في مستوى الأفراد والمجموعات، وتتجلى هذه التوتّرات في “المنطق العلائقي” الذي يسم أشكال التواصل بين المجتمعات، ممّا يحتّم التساؤل حول مدى وجاهة التسليم بقدرة الوعي الكوني على استيعاب الخصوصيّات المحليّة لدى الحقول الدلاليّة ذات العلاقة بقوى الهيمنة الإمبرياليّة المسكونة بالمنطق الاستعماري والقوميّات الشوفينيّة.
كذا هو التحدي الجوهري الذي واجهه وتواجهه القوى التقدّميّة المؤمنة بالمشروع الكوني ذي الصبغة التنويريّة مثلما ورد في مضامين مداخلات الندوة الجامعة بين أطروحات المؤرّخين التي مثّلتها رئيسة قسم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بالمجمع الدكتورة منيرة شابوتو الرمادي والباحثة ليلة دخلي، وأطروحات علماء اجتماع تونسيين وغربيين، حيث قدّم الأكاديمي محمّد كرو في تدخّله تشريحا سوسيولوجيّا لرهانات الوعي الكوني في ظلّ تحديات تمليها العوامل الجيو-سياسيّة والسوسيو-ثقافيّة منسجما في ذلك مع عديد المقاربات الأخرى لسوسيولوجيين مثل الباحث في مركز CEPED الأستاذ Vincenso Cicchelli ، كما قدّم في نفس السياق المختص في الدراسات الأنتوبولوجيّة الأستاذ منذر الكيلاني مقاربة حول الكونيّة النقديّة مؤكّدا أهميّة وظيفيّة الفكر النقدي في بناء هذا المنشود العالمي. فالهدف الأساسي من الندوة وفقا لجل المتدخّلين هو رصد المشترك بين المقاربات المختلفة من أجل الإسهام في انتاج الحاضنة المعرفيّة سعيا إلى صياغة أطروحات مشتركة تائقة إلى تعدّديّة الكونيات المفتوحة، والمتحرّرة من المغلق المرضي والأحاديّة الإقصائيّة، لذلك احتوت فعاليات النشاط العلمي على مداخلات حول السيكولوجي والتراثي للأساتذة الصديق الجدي وفوزي محفوظ وجلال عبد الكافي مؤكّدين على حتميّة التكامل بين الخصوصي من جهة بما هو هويّة، وتراث مادي وغير مادي أغنت به الشعوب التراث العالمي، والكوني من جهة ثانية بوصفه ذاكرة إنسانيّة عالميّة، وهو ما توثّقه وتهتمّ به منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة.
باختزال شديد تظلّ الكونيّة منظومة قيم مرتهنة بوعي مستنير منعتق من أشكال الهيمنة المعلنة في سياقات والمجهريّة في أطر مغايرة، ففي الكوني غير الطوباوي Utopiqueيتعايش الخصوصي مع المشترك وفقا لمبادئ الدستور العالمي حسب عبارة الفيلسوف الألماني هيغل.
المواكبة الإعلاميّة