هل أنّ أساليب الفكاهة والمزاح متأصّلة في كل المجتمعات وفي جميع الحقب التاريخيّة أم هي ظاهرة عابرة؟ ماهي السياقات التي تزدهر فيها هذه الأشكال التعبيريّة؟ وهل يمكن أن تتّسم بطابع الهويّة ممّا يبيح الحديث عن فكاهة عربيّة وأخرى أوروبيّة مثلا؟ كيف توظّف الفنون تلك الوسائل التعبيريّة في أعمالها؟ أيّ حضور لمفردات الدعابة والمزاح في الميديا الاجتماعيّة؟ ما مدى نجاعة هذه التقنيات الاتصاليّة بيداغوجيا؟ وما مبرّر اعتمادها في المجالات التعليميّة والتربويّة؟ متى ولماذا يستعيرها المعيش الحميمي؟ كيف يرسل السائس رسائله الحبلى بالمقاصد عبر “نكتة عابرة” توهم بالمزاح وتتوق إلى استنطاق المسكوت عنه؟ هل من جدوى لهذه الوسائط التعبيريّة إكلينيكيّا؟ أثارت نخبة من خبراء علم النفس والأكاديميين المختصين والمبدعين هذه الإشكاليات في ندوة علميّة مشتركة بين المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” ومخبر علم النفس الإكلينيكي: الذات والثقافة حيث واكب روّاد بيت الحكمة على امتداد يومي 12-13 نوفمبر 2021 سلسلة جلسات علميّة حضوريّة وافتراضيّة، قدّم خلالها خبراء علم النفس والمهتمين بهذا الشأن من أكاديميين ومبدعين تونسيين، وغربيين، ومن دول عربيّة مختلفة مجموعة مداخلات تشخّص منزلة أساليب الفكاهة والمزاح وضروب الدعابة تعبيريّا، وبيداغوجيّا، وسيكولوجيّا، وإكلينيكيّا. فهي ظاهرة كونيّة ذات تجليّات محليّة وإقليميّة تستوجب مقاربات تنحدر من سياقات ثقافيّة مختلفة كما جاء في كلمة افتتاحيّة لرئيس المجمع الدكتور محمود بن رمضان، منسجما في ذلك مع مقاربة الدكتور رضا بن رجب مدير المخبر المؤكّد على النجاعة التعبيريّة للفكاهة، فكل فعل من معجم المزاح في نظره هو رسائل تعبيريّة متعدّدة المعاني وإن بدت عفويّة، إذ استشهد في هذا السياق بالرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي غالبا ما يمرّر رسائله السياسيّة المفعمة بالمقاصد عبر أمثال ومفردات برقيّة غالبا ما تفهم ضمن مفهومي “الدعابة والنكتة”، لكنّها في الحقيقة تتنزّل ضمن خطط اتصاليّة قاصدة، وكل متقبّل يعي جيّدا الرسائل الموجّهة إليه، ألم يعرّف الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو هذه الأساليب من سلطة اللغة على أنّها استراتيجيا غير مخطّطة في الظاهر لأنّها توهم بالعفويّة وبالمزاح وباللاّقصديّة إلاّ أنّها قاصدة، بل هي غنيّة جدّا بالمقاصد التي تنتظر مواكب التأويل الفطن، بمعنى ليست عفويّة فآخر اهتمامها المزاح. إنّها ظاهرة “متأصّلة في جميع المجتمعات وفي كل العصور” مخترقة المجالات العامّة وحاضرة بكثافة في المجال الحميمي وفقا للأكاديميّة المختصة في علم النفس الإكلينيكي ومنسّقة الندوة العلميّة الباحثة سلمى درويش الكامل شعارها في ذلك “الفكاهة تزيل الآلام” وتحصّن وشائج التواصل لما توفّره من حاضنة محدثة لكافّة أشكال التوازن النفسي، إذ ركّزت في هذا الإطار على مضامين كتابات مؤسّس مدرسة التحليل النفسي “سيغموند فرويد” و”جاك لاكان” التي شرّحت سيكولوجيا الفرد والمجتمع. لنستشف ممّا تقدّم حجم وظيفيّة تقنيات الفكاهة والمزاح، تلك التي تتخطى حدود الفهم السطحي الذي غالبا ما يختزلها في الاستهزاء والسخريّة واللهو الخ.. لكن التشخيص العلمي لمهامها ينزّلها ضمن منزلتها الإكلينيكيّة المقاومة لباتولوجيا الكآبة، والانطواء، والتوتّرات، والرتابة اليوميّة، وضغوط الواقع البائس خاصّة في بعض السياقات التي تكون فيها الذات محاصرة بالمحظور والتدابير والضغوطات، لذلك اهتمّت عديد المداخلات بأطر محدّدة تكون فيها الفكاهة خلاصا مثل مداخلة الباحثة جيهان مرابط التي تناولت حقبة المراهقة “الثائرة بامتياز” على حدّ عبارتها، كما تطرّقت إلى مدى حاجة الوسط المدرسي لتلك التقنيات المقلّصة للفجوة بين قطبي الخطاب أي الباث والمتقبّل. وفي هذا السياق قدّمت المجمعيّة سعاد كمون شوك مقاربة نقديّة للمناهج التعليميّة السكولاستيكيّة والأساليب التربويّة التقليديّة المنفّرة للمتلقي، والمعمّقة للهوّة بين منتج الخطاب ومتقبّله من جرّاء جفاء وغموض وفقر الطرق التلقينيّة المسقطة التي تخطّتها البيداغوجيات الحديثة، لاسيما في بعض الاختصاصات العلميّة والفلسفيّة المعقّدة بماهي نظم معرفيّة تقتضي الابتكار والتجديد في مستوى فن التبليغ لأنّه في نظر الدكتورة سعاد شوك ممارسة ابداعيّة تقطع مع الأساليب المملّة التي أدّت وتؤدي إلى أرقام مفزعة في مجال الانقطاع المدرسي، بل انقطاع الباحثين الجامعيين مقدّمة بلغة الإحصاء والأرقام مخاطر هذه الآفة الناجمة عن آفة المناهج التعليميّة، ومن بين هذه الأرقام الواردة في دراستها “انقطاع مليون تلميذ منذ سنة 2010” وهو ما تؤكّده بحوث المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة. كما ذكّرت في مداخلتها بسلسلة الأنشطة العلميّة التي نظّمها المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” على امتداد السنوات الأخيرة الصادرة ضمن منشورات المجمع، لكن السؤال هل من مجيب؟ باختزال شديد تدعو الأستاذة شوك إلى التجديد وفقا لاكتشافات الدراسات الإيبستيمولوجيّة والمناهج التحديثيّة، فما لا يصل إلى المتلقي عبر التلقين المسقط والعمودي والجاهز لأنّ الدروب التكوينيّة غير سالكة يمكن أن تمرّره تقنيات المجاز والقياس والدعابة المزيلة للحواجز السيكولوجيّة. كذا هو الإنسان بنية يتداخل فيها النفسي والبيولوجي والذهني، وتتأثّر كل هذه الفعاليات بمكوّنات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتكون فسحة الترفيه مطلبا حيويّا لذلك افتتحت الباحثة الفرنسيّة “ماري أنو” مداخلتها متسائلة ما الذي يضحكنا؟ ما الذي يمتعنا؟ لتجيب قائلة “إنّ الفكاهة دعامة صمود كلّما كنّا في ظروف صادمة” نظرا إلى ما تضطلع به من تطهير للبنى النفسيّة والذهنيّة المنهكة بسبب تعدّد إكراهات الواقع خاصّة في ظل الأزمات الكبرى مثل الحروب والثورات حيث عادة ما تتنامى خلالها فنون المزاح والفكاهة، وركّزت بعض المداخلات على حجم حضور هذه الأساليب التعبيريّة في الفنون وفي تدوينات الفايسبوك ما بعد الثورة وخلال انتشار وباء الكوفيد 19 الذي حتّم الهروب إلى عالم التصعيد الفكاهي كما ورد في مداخلة بعنوان الفكاهة في زمن الكوفيد للفرنسيّة “صوفي ميجولا-مالور” وظّفت فيها تشريحيّة التحليل النفسي الفرويدي، إذ يعدّ المزاح في نظرها “آليّة تصعيديّة” وأبرزت أهميّة تقنيات الاستهزاء والفكاهة وفنون السخريّة من جهة كونها ميكانيزمات تحريريّة للذات، مستشهدة بفلسفات جيل دولوز ونيتشة وخاصة الأطروحة النيتشويّة في كتاب ميلاد التراجيديا التي تعتبر السخريّة من بؤس القيم خلاصا أنطولوجيا، ألم يقل نيتشة “لولا الموسيقى لكانت الحياة هفوة” ولولا الفكاهة لما استقام الوجود، ولولا هذه المقاربات العلميّة لما أدركنا الفواصل بين ميوعة مزاح التهريج ووظيفيّة الفكاهة نظرا إلى نجاعتها في مواجهة القوى المحبطة، ونظرا إلى قدرتها على تصحيح مسارات الحياة النفسيّة والعقليّة، ألم تصبح متع الخيال وفسح الفنون أساسيّة في الطب البديل؟ ألسنا أحيانا بحاجة لهدوء الوهم أفضل من صخب الحقيقة؟
المواكبة الإعلاميّة